أعيدوا روحي
في هذا العالم الواسع يوجد ملايين البشر كل منهم يحمل قلبا" وروحا" ، قلبا" صافيا" بالفطرة تغيره الحياة وتصقله ، يحمل في هذا القلب الصغير آلاما" وأفراحا" 0 وهذه الروح البشرية تعيش لحظات مع البسمات ولحظات مع الدموع ، وبحجم هذا العالم وباتساعه هناك هموم يحملها شخص واحد وبالمقابل يوجد لحظات مع الفرح لا يتسعها العالم بأسره ، فلكل منا حظه من الحب والجفاء ومن السعادة والشقاء ، ومن الجميل أن نرسم على شفاهنا بسمة من بعد معاناة طويلة من الغدر والعطاء 0 فهي الحياة هكذا يوم لك ويوم عليك دمعة 0 في إحدى قرى رام الله الفلسطينية المحتلة تعيش عائلة صغيرة مكونة من ثلاثة أشخاص يعيشون بهناء ولكن سلطة الاحتلال وظلمها قد أفقدتهم هذا الرغد الذي كان يملأ عليهم عيشتهم وأسكنت الحزن في قلوبهم 0 جميل الكرمي واحد من الذين وقع بطشهم عليه فحرموه من أغلى شيء في حياته 0 (لنتابع حكايته ) نحن في شهر حزيران أرى الجو مناسبا" للقيام برحلة مع الأصدقاء فمنظر الشمس مشجع جدا" ، وهذا الرحيق المنتشر في الأجواء يذكرني برائحة الجبال ، ومداعبة الهواء لخصل شعري ، هاقد تذكرني بفاتنتي الجميلة ، لابأس لا بد من مكالمات عدة حتى أجمع كل زملائي وأصدقائي ، لم يبق سوى السيارة التي عليّ استئجارها ويصبح كل شيء جاهز 0 نعم لقد حصل كل ما خططت له ، ما أظن أنه سيكون أجمل من باقي الرحلات الماضية التي أمضيتها مع رفاقي 0
ولكن ماهي إلا ساعات قليلة حتى انطلقنا معا" وكانت الطريق طويلة بعض الشيء 0 وكالعادة رفاقي يهوون المرح ولم تكد لحظة تخلو من مزاحهم وضحكهم ، وهم كفيلون بقتل الملل هي هكذا يوم ، إنه أمر جميل جدا" ومن المؤكد أننا سنصل في النهاية 0
لقد أعددنا كل ما يلزم بعد وصولنا بدقائق 0 بدأ أحمد ومحمد بالعمل في الشواء ، أنا (جميل) وحمزة أبقيناهم لعميلة الشواء ، جلسنا قليلا" ثم تركتهم وبدأت البحث ولم أكن أدري عن ماذا أبحث 0 ذهبنا أنا وعلي نتفقد المكان فقد كان رائعا" جدا" ، بل كنت أشعر أن هناك شيئا" يناديني يريد مني أن أراه ، لقد واصلت مسيري في هذه الأرض الواسعة حتى وصلت إلى زهرة بريّة حمراء اللون جميلة ، وريقاتها ذات منظر خلاب تجذبني بسحرها الرائع تأخذني إلى عالم بعيد جدا" في نظري 0 وقفت حائرا" لا أدري ما الشيء في البداية إنه عالم لا يستطيع أحد الإبحار فيه سواي ، الذكريات التي جلبتها إلي هذه الزهرة يسمونها شقائق النعمان ، ولم يخرجني من سكوني هذا إلا حمزة بمزاحه المعتاد عندما دفعني قائلا" : ماذا تفعل هنا تحدّق بالأزهار وقد كاد أن يوقعني فوق تلك الزهرة ، قد تكون كلماته في سبيل المزاح فحسب ، ولكني أصبحت عصبيا" فأرى نفسي أصيح كالفتيات 0 وسألني لماذا هذه الزهرة بالذات ؟ والأزهار للفتيات فقلت له : ومن قال لك أن الأزهار للفتيات فقط ، فأنا لطالما عشقت هذه الزهرة ، ببساطة قلت : لأنها بمثابة روحي أنا قلت هذا وانطلقت منه ضحكات ساخرة وهو يقول: روحك ! ومنذ متى أصبحت الأزهار تمثل أرواحنا ، تنهدت عميقا" وصمتّ طويلا" ولم أرد لصديقي بحرف واحد آخر ، فقد أتيت أنا لكي أستمتع بوقتي ولم آت لكي أنزف همومي 0 فسألني إن كنت تذكرت شيئا" ، مع أنني أرى علامات الحيرة تعلو هذا الوجه الذي يقف أمامي 0 ظنني لن أجيبه فسكوتي يوحي بهذا ، ولكني أحتاج إلى أن أخرج كل ما أعاني به 0 بدأت بكلام قد يدمي الفؤاد ، ولم أر من صاحبي إلا الإصغاء إلى أن أبوح بكل ما لدي من أوجاع 0 ودونما تفكير لم يقاطعني ولو بحرف واحد وأخذت أحكي همي ، وتحزنه حكايتي لرغبة مني في استفراغ القلب من آلام 0 بدأت قصتي مع هذه الزهرة عندما كانت تنبت في حديقة منزلي ، لم أكن أزرعها ولكني كنت أسكن في منطقة جبلية من الطبيعي أن نجدها في هكذا مناطق 0 كانت لي طفلة صغيرة عندما حملتها بين ذراعيّ لأول مرة أسميتها فاتنة بعدما رأيت جمالها الساحر الذي خطف قلبي 0 كنت أشبهها بهذه الزهرة دوما" ، فلها خدان تكسوهما حمرة كحمرة بتلات تلك الزهرة ، وعينان سوداوان كما ترى عندما تمعن النظر بهذه الزهرة من سواد 0 قبل أن تولد كنت لا أشعر بالسعادة ، كما شعرت بها بعد دخولها حياتي ، كنت حريصا" على تعليمها كل شيء 0 وكنت أجلسها بقرب تلك الزهرة دوما" ، لطالما أردت تعليمها كلمة ( أبي ) ولكنها دوما" تنطق بحرف واحد دون البقية كنت أشعربأنها تحاول تلبية طلبي ولكنها لم تستطع قلت بالبداية لابأس ، فلا بد لي أن أسمعها وهي خارجة من بين تلك الشفاه الوردية ، وقد ملأتها ضحكات بريئة وفرحا" ليس له مثيل 0 مرت شهور على قدومها لحياتي وقد تعلقت بها جدا" ، عشقتها عشقا" ليس لأحد له في قلبي مثله ، لا أظن أن بعد اليوم لي حياة من بعدها 0
وفي ليلة أبى فيها البدر أن يطلع ربما لعلمه بما سيكون فيها ، كنا نياما" أنا وزوجتي ومعي فاتنتي الصغيرة ، لم نريد لأحد أن يخرب علينا هذا النوم المريح فقد كان بعد عناء يوم كامل في العمل ، وإذ بصوت يطرق باب منزلنا الصغير بشدة ، لا أريد أن أنهض من فراشي ولكن لابد من رؤية من كان بالباب ، لم أجد نفسي إلا وأمامي مجموعة من الجنود سألوني إن كنت المدعو جميل الكرمي أجبتهم بالتأكيد أنا 0 قالوا لي بأن عليّ مرافقتهم إلى الدورية ، لم يخطر ببالي أي شيء حينها سوى صغيرتي النائمة ، لمن سأنركها؟ وعندما أبتعد عنها ستبكي عليّ وأنا لا أطيق رؤية دموعها وقد بللت عينيها ، وقد شدني يومئذ صوت صراخها ، لقد أيقظوها بأصواتهم المزعجة ، أفسدوا على صغيرتي نومها ، طلبت منهم بعض الوقت لكي أبدل ملابسي ولكن الحقيقة أريد أن أودع صغيرتي الباكية 0 ظننت يومها أنه ثمة خطأ في اصطحابي معهم ، ربما يريدون شخصا" آخر ولكن أراهم يجرونني كمجرم اعتاد الإجرام 0 وخلفي صوت من صغيرتي يخترق أذنيّ بهذا البكاء ، أهو عليّ ياترى ؟ أم لأنها استيقظت فجأة من نومها الهادئ ، ولكنها قالتها قالت أ00 ب00 ي أخرجتها ، نعم سمعتها من بين صرخاتها0 أولست أنا من تمنيت أن أسمعها تخرج من بين شفتيها ، ألم تجد وقتا" أنسب من هذا لكي تحقق لي ما أريد ؟ وكم تمنيت أن أضمها على صدري وأنا أربت على كتفيها الصغيرين ، لكن مانفع التمني الآن 0 فكم تمنيت أن تنشق الأرض وتبتلعني ، واصلت مسيري معهم حتى وصلنا مكان لا أدري أين يقع ، شعرت بدوار شديد في رأسي فأنا أريد النوم ، ولكن أي نوم في مثل هذه الظروف ، فقد أمسيت في مكان مظلم لا أدري أهي زنزانة ؟ أم غرفة مظلمة عمدوا إحضاري إليها لكي يشعرونني بالخوف ؟ لم أتساءل طويلا" فكل أسئلتي حضّرت إجاباتها عندما حضر محقق ولا أدري من معه سألوني يومها إن كنت أعرف شيئا" عن أشخاص أظن أني سمعت بهم ، ولكني لا أملك المعلومات المحددة التي قد طلبوها مني لقد تعذبت كثيرا" في تلك الأيام ، ولكن ما من شيء يهوّن عليّ ألمي سوى كلمات صغيرتي الشفافة التي ما زالت عالقة في أذنيّ أمضيت في تلك الغرفة البائسة أسبوعا" كاملا" دونما راحة وانتهت تلك الأيام بنقلي إلى زنزانة فيها الكثيرون من أمثالي ممن لا يدرون حتى الآن لماذا تم اعتقالهم ، كانوا يهوّنون على أنفسهم بشرب السجائر وغيرها من الذي يجعلهم غير مهمومين حسب ما يقولون ، ولكن أنا كنت أهوّن على نفسي برؤية صورة حبيبتي الصغيرة ، التي ما تزال تتربع في مخيلتي على عرشها الأبدي ، أبت نفسي أن توقف التفكير بما حل بها من بعدي ، كانت كل زاوية في ذلك المكان تستحضر ذاكرتي بها ، حتى أني أهملت التفكير بمصير زوجتي من شدة انشغالي بمصير حبيبتي 0 لم أكن أرى مشهدا" أكثر إيلاما" من مشهد معانقة زملائي في السجن لأطفالهم الصغار عند الزيارة 0 لطالما قبّلت قطرات المطر في زنزانتنا ، لم تكن تصل إلينا كشعاع الشمس الذي يمر بهدوء علينا من نافذتنا الوحيدة ، ولكنها كانت تصل إلينا من السقف المملوء بالفتحات 0 كان الشتاء قاسيا" جدا" ، والمؤلم أكثر أننا كنا نخرج في البرد الشديد إلى أرض مجاورة للسجن الذي كنا فيه ، المطلوب منا هو تنظيفها كنت كما البقية أعمل بصمت 0 ولكني صدمت برؤية تلك الزهرة في ذلك المكان ، كانت جذابة كالملكة تتربع على عرشها ، تخطف الأبصار بمجرد لمحها 0 لم أتمالك نفسي آنذاك فلا أدري ماذا جرى لي ، تذكرت صوت حبيبتي الصغيرة حين نطقت باسمي وقالت ( أبي ) فتفجر بركان شوقي ولم أحبس دموعي من شدة الشوق الذي مزق أحشائي وهز كياني 0 لن أخل أني بهذا الضعف لم أعد أستطيع أن أتحكم بمشاعري ، ولكن هذه الزهرة أعادت لي ذكرياتي وعندما كنت أراها تتمايل كنت أتذكر فاتنتي الصغيرة وهي تحاول المشي كانت تتعثر كثيرا" ولكن هذه الزهرة لا يهزها شيء 0 واصلت حياتي على هذه الحال طيلة فترة مكوثي في السجن ، كنت شديد العصبية والحساسية دوما" 0 وعندما جاء اليوم الموعود ، اليوم الذي حلمت فيه ، هو اليوم الذي سيجمعني بصغيرتي التي ستكون مرتدية أجمل حلّة لها ، حضّرت كل شيء يلزمني ، ولو كان العالم يتسع للفرح الذي أسرني لكفى كل إنسان وعائلتي 0 حياتي أصبحت جحيما" من ذلك اليوم ، وهاقد أنا فيه ، خرجت ولملمت كل شيء حتى الذكريات 0 أيقنت من بعد هذه التجربة القاسية أن الحياة فيها ما يسّر الإنسان وفيها ما ينزف همومه ، ولكن لابد من يوم يصلنا فيه شعاع الأمل وينثر الحب في كل مكان 0 نقلت مع بقية الأسرى إلى حيث ينتظرنا الجميع ، ولكن وا أسفاه فأنا لم أجد أحدا" بانتظاري 0 فقد طال غيابي ولم يشتق لي أحدا" ولكن أريد صغيرتي فلا شك وأنها كبرت قليلا" ، فربما تأخروا عني أو لم يعلموا بقدومي ، ودّعت الجميع وذهبت لكي أرى منزلي 0 ومقلتيّ لم تعد تر شيئا" سوى صورة الموت ، ولم أدر لماذا خيّم عليّ حزن شديد ، أو لماذا انتابتني رغبة بالموت ووصلت منزلي كان موحشا" وخاليا" ، فيه صوت الحزن والأسى يحكي حكاية الموت ويعزف سيمفونية ألم وعتاب فلم أجد أحدا" ، أهو الموت حقا"؟ أم أنها بقايا حياة لم تكن أصلا" ، أم أني في حلم قد طال ؟ ظننت لبرهة أن حياتي عبارة عن حلم وهاقد استيقظت منه ووجدته جزءا" من سراب 0 ذهبت بعد تأمل قد طال إلى حديقة منزلي لعلّي أجد شيئا" يجيب عن تساؤلاتي ، لم أجد سوى تلك الزهرة الحمراء التي كانت تتمايل مع الريح ولكنها بقيت مكانها ، مؤكد أنها ليست تلك التي تركتها ولكنها جزء من حقيقة قد عشتها ، سألت الجيران عن أهل منزلي ، أين هم ؟ أين رحلوا ؟ سكتوا طويلا" ولم يجيبوني في البداية ظننت أن هذا السكوت لاستغرابهم لوجودي في هذا المكان 0
ولكني أبحرت في عيونهم ، لمحت في صمتهم بعضا" من إجابات أسئلتي ، ولكن كان لابد من إجابة منطوقة ، سألت مرة أخرى أين عائلتي ؟ أجاب أحدهم بأن زوجتي قد ذهبت للعيش في منزل والديها ، قلت بلهفة وصغيرتي أين ؟ قالوا: لا ندري ، قلت بحميّة شديدة : كيف لا تدرون ؟ أخبروني بعدها بأن صغيرتي قد فارقت الحياة لمرض قد أصابها 0 لا أعرف كيف بقيت حيا" يومها ، ولكن ليتني مت فهذا أفضل 0 يا أيها القلب المأسور بالكتمان ، يا أيتها الروح المكللة بالأحزان ، يا أيها العالم المطلي بالحرمان والهجران ، إني أموت قهرا" من الحزن والأشجان ، قلبي لم يعد يحتمل كل البعد ، وحتى الدمع ملأ عينيّ و أجفاني ، أينتظرون أن أحمل بمقلتي أكفاني ؟ وأخط كلمات موتي بكل المعاني ؟ أهذا ما خطه لي القدر من عذابات ؟ أو أن هذا ما أرادته لي السماوات ، أم أن الفراق قد كتب وليس معه سوى الذكريات ، والدنيا قد عجزت عن تدبير اللقاءات 0 أنا الآن لا أملك روحا" هو جثمان لا غير ، لم أستوعب الصدمة بعد ربما ما زال حلم حتى الآن , وأصبحت أردد ( فاتنتي فارقت الحياة ! ) انتظرت طويلا" قرابة أسبوع ولم أسأل عن عائلتي ، أحيا معزولا" أعيش في سجن بلا سجّان ، بلا هواء حياتي وروحي ، بلا غذاء قلبي ومهجتي ، ولكن لابد من الاطمئنان على زوجتي ، ذهبت إلى منزل أهلها حياة ليس لها معنى 0 لم أعد إلى منزلنا القديم ولكني ذهبت إلى منزل والديّ واصطحبتها معي ، وأخذت معي بعض زهرات من شقائق النعمان ووضعتها على ذلك القبر الحجري ، قبر فاتنتي 0 فأنا لا أريد لأي طفل جديد أن يأتي لحياتي حتى لا يذهب ، وواصلت حياتي جثمانا" من دون روح 0 كانت هذه حكايتي مع هذه الزهرة 0 يا حمزة ! هل ترى أنه لا يحق لي أن أعدّها جزءا" من روحي لأنها تمثل بعضا" من ماض أليم ممزوج بذكريات شبه جميلة ، لو أن هذا أصاب جبلا" لوقع من بعد شموخ ، ولكن ما هذه الدنيا إلا سنين وشهور000 أسابيع أيام نذوق منها الحلو والمر ، و إن كان المر قاسيا" علينا فلا بد لنا أن ننسج من الأمل حياة ، وإن كان الثمن غاليا" ، ولا ضرر أن نحتفظ بصفحة الذكرى ، وقد تكون الذكرى مؤلمة في بعض الأحيان ، فحلاوة الحياة بصورة ، ولكن لابأس فهذه هي الحياة وهؤلاء مجرد أناس أحببناهم وتخلينا عن جزء منا لأجلهم 0 وهذه الزهرة كانت قطرة ماء في بحر لجيّ حالك السواد ، وقد بقيت لعلها تشعل بعضا" من هذه الذكريات الجميلة لغيري 0